لا يمكننا الكتابة عن معارض خريجي أكاديميات وكليات التصميم والفنون في أيام الكورونا دون التطرق إلى الجائحة غير الاجتماعية التي حلت بنا, خاصة وأنه من بعد محادثات ومراسلات عديدة مع إداري المعارض في هذه الكليات، أدركت هَول الأثر الذي فرضته جائحة "كورونا" على أحد أهم اللحظات في حياة أفواج الخريجين الجديدة. استوقفتني أفكار عديدة خلال تجوالي في المعارض، كيف يمكن لمرحلة الذروة في التجربة الجامعية التي يعرض فيها الخريجون والخريجات زبدة أعمالهم وسيرورة تجربتهم الدراسية أمام الجمهور، أن تكون مقيدة في عدد الزوار، ومحدودة في أوقات الزيارة. على الاخص, أثناء تجوالي بين أعمال الطلاب العرب، الذين لا يُعَرّج عليهم جمهور غفير حتى في أيام خلت من جائحة، بسبب الحواجز الثقافية والاجتماعية.
تزامنا مع الإغلاقات الشاملة التي طالت المتاحف وصالات العرض، وتابعات هذه الموجة المفاجأة على عالم الثقافة والفنون، اعتقدت للوهلة الأولى, قبل وصولي الى المعارض أن الموضوعات التي سيطرحها الخريجون في أعمالهم ستتمحور حول الجائحة والتغيرات في العالم، إلا أني لم أكن على صواب، إذ وجدت استمرارية في تناول موضوعات سادت قبل الجائحة لدى معظم الخريجين. كان هنالك العديد من الأعمال المُلفتة، والمُثيرة للاهتمام والفضول من كافة الكليات، تثبت أن الفن هو أداة للنقد المجتمعي. تناولت الأعمال قضايا جوهرية كانت أيضا مشتركة لدى غالبية الفنانين، تفاوتت بين قضايا صراع مجتمعية مثل مكانة المرأة في المجتمع العربي، وقضايا متعلقة بالهوية لدى الشباب الفلسطيني في البلاد ، عناوين تعبر عن حالة التخبط والتمزق بين عالمين لدى الطالب الفلسطيني المنتج في الأكاديمية الإسرائيلية. من جهة يرغب الطالب في الحديث في موضوعات تخص تجربته الشخصية داخل مجتمعه، نقدها، الإدلاء برأيه الفنيّ فيها، في العادات والتقاليد، وقضايا حساسة مثل قتل النساء والعنف، من جهة أخرى لا يمكنه الانعتاق عن صراع قامع شمولي، يؤثر عليه مثل أي فلسطيني أخر، يريد أيضا أن ينظر إليه بعين ناقدة، وأن يتحدث عن الاحتلال. قد يكون واضحا وضوح الشمس أن الفنان العربي لا يمكنه الا وان يتطرق الى هاذان الموضوعان اللذان يشكلان هويته سويا، مع ذلك أُمن أنه من المرفوض أن تغيب
إحدى هذه الموضوعات عن الحوار الفني، لا سيما في منصاتنا المحلية.
أثناء تجوالي في المعارض إن كانت في كلية بتسلئيل أو جامعة حيفا، كنت أُجبر نفسي أن أقف للحظة وأتأمل، وأن أتجرد من كل تجاربي الشخصية عندما أُعاين الأعمال الفنية، كي أتمكن من التواصل مع أفكار الفنان وتخيل الطريق الشاقة التي خاضها حتى وصل الى عمله النهائي، في بعض الأحيان لم أتمكن من فعل التجريد عندما فشل عدد كبير من الطلاب من إيصال المفاهيم التي أقاموا الأعمال عليها، أو إتقان استعمال الوسائط، سواء في عمل مصور فيه مبالغة غير لازمة، أو لوحة رسمتها أيد هاوية.
مع ذلك شعرت خلال رحلتي المتواضعة بوجود بعض العناصر البارزة التي تميّز هذه الدفعة. أولها أن غالبية الطلاب الخريجين قرروا مشاركة قصتهم الشخصية في أعمالهم، والتعبير عن مواقفهم الاجتماعية والسياسية في الأعمال. أرى في رغبة الفنانين إدخال قصصهم الشخصية في إحدى أهم مشروعات حياتهم، تطبيق لكلمات الفنانة المكسيكية القديرة فريدا كالو "أنا ارسم الورود، كي لا تموت"، هذه الورود التي تأبى أن تموت، هي الاحتلال المستمر الذي يقرر شكل الحياة للفلسطينيين، هي الدافع النسوي للخريجات بطرح قضايا مكانة المرأة في الوسط العربي، هي الرغبة في كسر العادات والتقاليد الموروثة، وهي الذكريات التي لا يريدونها أن تنسى. الورود في لوحات فريدا هي التجارب التي خلدها الخريجون في أعمالهم، وصيحتهم الأبدية: " نحن هنا". يتفاقم زخم القصة الشخصية في الأعمال عند احتوائها لأفراد الأسرة، كانت هذه من الخطوات الجريئة في عدة أعمال مصورة برزت في جميع الكليات تقريبا، وبالتالي قد أثرت
في رؤيتي وتقيمي للأعمال، لأن في أدخال أفراد الأسرة كجزء من الأعمال شجاعة في مشاركة الحياة الخصوصية، ومقولة واضحة في دعم هذه العائلات لأفرادها في مسيرتهم الفنية.
بالرغم من انبهاري في مشاركة القصص الشخصية، وإشراك أفراد العائلة في الأعمال، إلا أن بعض الإشكاليات لم ترُق لي. فقد افتقر جزء من الأعمال لنصوص وحتى عناوين تحكي عن العمل الفني، فأنا شخصيًا, لا أوافق الرأي بأن النصوص تشوه رؤيتنا وتقييمنا للأعمال، كنت أُشاهد الأعمال للمرة الأولى، ولا أعرف شيء عن الفنانين أيضا، لا خلفيتهم ولا أعمال سابقة لهم، وهذا لم يمكنني من فهم الأعمال، أو القصد من كومة ملابس ملقاة على الأرض، بلا عنوان أو نص. كان شح استعمال اللغة العربية أيضا من الأمور التي تركتني في حيرة، كيف يمكن لأعمال الطلاب العرب، التي تتناول تحديدا قضايا أزمة الهوية وتجاهل اللغة العربية، مرفقة بنصوص باللغة العبرية فقط؟! كما عرضت الأعمال في معرض فيتسو. إنها لمفارقة سخيفة فعلا ولا يجب القبول بها. في هذا الموضوع خصوصًا أوجه أصابع الاتهام نحو المركز الأكاديمي, إذ أرى بأنه من واجبه احتضان هذه المبادئ والمفاهيم، وأن يقوم هو بدوره بنقلها إلى المجتمع.
تجدر الأشارة إلى أن أكاديمية بتسلئيل قد قامت بإرفاق النصوص بثلاثة لغات، العبرية العربية والإنجليزية إلى الأعمال، مؤكدة مخاطبتها كافة الزائرين.
كانت هناك معارض بارزة شملت أعمال خريجين استثمروا الوقت والكثير من الطاقة في اختيار الفكرة والعناصر في مشروع تخرجهم، بالإضافة إلى كونها أعمال مبدعة مع "رسالة"، تثير الفضول, الأفكار والمشاعر لدى المشاهد. لكن الاعمال كهذه, الممتازة, التي صادفتها أثناء جولاتي قليلة للأسف. لكن كانت هناك أعمال جعلتني أتساءل عن اختيار الفنان للوسيلة وللأسلوب، وهو ما يشير برأيي إلى عظمة هؤلاء الخريجين المتفوقين حيث رافقتني التساؤلات عن أعمالهم حتى ما بعد خروجي من المعرض. جذبتني الأعمال التي تضمنت وسائل فنية متعددة حيث استطاع الاستخدام والدمج الصحيح بين الوسائط, التعبير عن رسالة الفنان نفسها بأصوات مختلفة - وهو أمر لم يكن بمقدور سوى عدد قليل جدًا من الخريجين القيام به.
أما بما يتعلق في المعارض ذاتها، فقد شعرت في بعضها بالاستهتار تجاه الأعمال، وعدم الاهتمام بالتنسيق والإدارة والتنظيم، وهذا امر يخفي جماليات الأعمال الفنية. على عكس ما لمسته في معرض جامعة حيفا، الذي يقام في مبنى كلية الفنون، حيث أتاح هذا المعرض إمكانية التنقل بين الأعمال بسهولة، بالإضافة الى تنوع الموضوعات والأساليب الفنية، مقارنة بالعام المنصرم الذي لم يبرز فيه سوى أصوات نسوية من المجتمع العربي. بالإضافة الى معرض اكاديمية بتسلئيل الذي لم أتمكن عن التوقف في التفكير فيه وفي الأعمال التي عرضت فيه ، خاصة في قسم الفنون الجميلة ، الذي وجدت فيه مستوى عالٍ من الإبداع والتخطيط الدقيق أكثر من كليات أخرى، احتوت كافة أعمال الطلاب العرب عناصر لأفراد من العائلة، أخص بالذكر ثلاثة أعمال، أثنين منهما شاركت العائلات فيهما بشكل فعال، وللأسف بعد دعوتنا للفنانين المشاركة في معرض يعاد لم نتلقى منهم ردا، أما العمل الثالث فقد تناول فيه الفنان ذكريات الطفولة، فقد أدخل شخصية والدته بطريقة مبتكرة لم نرى لها مثيل في أعمال أخرى. نجح هذا العمل ,بالاستعارة بأغنية لوردة الجزائرية وشجرة النخيل وزي الفنان، باستحضار تجربته الشخصية وتمريرها للمتلقي بطريقته الخاصة وبالاستعانة بالنص المرافق. مع ذلك وبسبب تقييدات وزارة الصحة, لم يلقى معرض الطلاب العرب في كلية بتسلئيل بالجمهور الذي يستحق حيث نفذت الأماكن المتاحة للدخول بسرعة كبيرة، واقتصرت مدة الزيارة على الساعة والنصف فقط.
أود أخيرا أن ابتعد قليلا عن المعارض والأعمال، وأناقش الفنانين ذواتهم و خطواتهم التالية، كيف سينمون ويتطوروا، وإلى أين سيحملهم المستقبل؟ لم أستطع مقاومة اليأس عند رؤيتي لأعمال ابهرتني، لأني ادرك التحديات التي سيواجهها الفنانون في دولة سلطتها لا تستثمر بالثقافة الفنية في المجتمع العربي، وشح الميزانيات المخصصة للمجتمع في مجالات الفن والثقافة ودعم مجتمع الفنانين، هذا بالإضافة إلى التيارات المعارضة للفنون وتضع امام الفنانين معيقات وتحديات مجتمعية وتوجهات لا تقبل الفن عندما يتطرق إلى مواضيع "غير مقبولة" او محبذة اجتماعيًا.
يفرض هذا الواقع المعقد على الخريجين الفلسطينيين معضلتين أساسيتين، صراع على البعد القومي في الساحة المحلية مع المجتمع اليهودي الإسرائيلي، او صراع داخلي في البعد الشخصي والاجتماعي في الحقل المحلي داخل المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل. ارى أن التحدي الرئيسي الذي قد يواجهه الخريجون داخل المجتمع العربي هو صعوبة قبول الفن الذي يتجاوز "المسموح" ويقدم نظرة على الوسائط التي يُفترض أنها "غربية".. ينبع هذا النهج أساسًا من "الاغتراب" الذي يشعر به المواطن العربي الفلسطيني تجاه الفن بكامل أشكاله تقريبا، حيث طالما كان المجتمع العربي بعيدًا، جغرافيا حتى، عن هذا المشهد.
يتعامل المجتمع العربي الذي يعيش جزء كبير منه تحت خط الفقر مع الفن على أنه حقل خاص لمن يتمتعون بامتيازات طبقية، أو أنه يقتصر على الغربيين او "اليهود". قد يكون ذلك أحد أسباب النسب العالية للطالبات العربيات في مساقات الفنون أو العلوم الإنسانية مقارنةً بعدد الطلاب العرب، انطلاقا من التصور أن اب الأسرة هو المعيل الرئيسي وبالتالي فهو ملتزم بتعلم مهنة وليس "هواية". من جانب اخر، لا تستثمر الدولة نفسها في المجتمع العربي على الإطلاق، خاصة فيما يتعلق بالفن. بالكاد تدرس تخصصات الفنون في المدارس الثانوية، وعندما تتواجد فيها لا تُلاءم ثقافيًا للمجتمع العربي. زد على ذلك غياب المعارض الفنية في المجتمع العربي مجملا، وأن غالبية المعارض الموجودة فيه تابعة لمؤسسات المجتمع المدني. كذلك الامر في قلة المتاحف في المجتمع العربي، هذان النقصان يعيقان تطور ثقافة الاستهلاك الفنية. وبالتالي يؤدي ذلك إلى البطالة في صفوف الفنانين الذين قد تخرجوا للتو وغيرهم كثيرين من قبلهم في مجال يحبونه كثيرًا.
شخصيًا ارى أن الانكشاف للفن عليه ان يكون في سن مبكر كما هو الحال في مدارس يهودية كثيرة، حيث أنه لغة يمكن للجميع فهمها وتطوير القدرة على النقد الذاتي والاجتماعي بواسطتها بالإضافة إلى جميع القدرات التي قد تتطور في أعقاب خطوات صغيرة مثل إنشاء صالات عرض أو مساحات مخصصة للفن. لن تكون هذه مساحات تسمح لهؤلاء الخريجين بتحقيق أنفسهم ومصيرهم فحسب، بل الأمل في أننا قد نتوقف يومًا ما عن رسم القضايا المتعلقة بقتل النساء أو العنف في المجتمع العربي، وأن يتوقف الآباء عن تفضيل أن يدرس أطفالهم "المهنة" – القانون, الطب أو الصيدلة. ربما سيتوقفون أيضًا عن تعليمنا منذ الصغر أن دراسة الفن هي مجرد هواية، ولربما يومها سنرى المزيد من الخريجين وليس فقط الخريجات في أكاديميات الفنون.
كوني طالبة للماجستير في مجال الفنون أتيحت لي الفرصة لكتابة مراجعة فنية أولى، أقول أن على الرغم من أن "تدفقي" وتدفق الطلاب الفلسطينيين لدراسة الفنون في المؤسسات الإسرائيلية يثير الأمل والفرح لدى الجمهور الإسرائيلي، إلا أنها لا تساوي شيئا في نظري طالما ننتظر افتتاح المتاحف في المجتمع العربي، وموافقة صالات العرض على عرض أعمال تتحدى الوضع الراهن وتفكك النظام الأبوي بجميع أبعاده في المجتمع.
مادلين محاميد